الخميس، 17 ديسمبر 2009

الحق أبلج

تعتبر كلمة الحرية من أعظم الكلمات على مر التاريخ و الازمنة ، و السبب في ذلك يعود إلى أمور عديدة ... فالكثير من القادة الشجعان عاشوا من أجلها و ناضلوا في سبيلها و قد يكون مآلهم الموت نتيجة للبحث عنها ، و كذلك الشعراء تغنوا بها و نظموا القصائد الكثيرة و الابيات المتناثرة خدمة لهذه الكلمة .. كما قال الشاعر :

أقول الحق حتى و لو كووا لساني بالجمرة
و إن كنت عبدا لغير إلهي لصرت عبدا لحريتي

وكذلك الانبياء عليهم السلام جاءوا لينصروا هذه الكلمة ، وعلى رأسهم خاتم الانبياء و المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم ، حيث جاء ليخرج العباد من عبادة العباد لعبادة رب العباد ... ما أريد الوصول له أن الحرية معنى يدغدغ مشاعري كثيرا و يجعلني أطيل التفكير في ثناياه حتى قمت بالبحث في معناه ، و قد رأيت أن الحرية أنواع فمنها الحرية الفكرية و حرية التعبير و الحرية السياسية و حرية الاعتقاد ...إلخ ثم تعمقت أكثر في مفهوم الحرية الفكرية و وجدت أن هناك ترابط لا مفك منه بين الحرية الفكرية و ديننا الاسلامي الحنيف .

لا شك أن الحرية مكفولة في الاسلام و هي أساس لا يمكن التخلي عنه في رسالتنا الحنيفية إلى العالم ، و هذا الأمر ثابت من خلال النصوص الشرعية و تاريخ صدر الاسلام فضلا عن المنطق الذي يؤكد تلك الفكرة ، و اذا رجعنا للقرآن الكريم وجدنا نصوصا كثيرة دعت إلى حرية الفكر و الاعتقاد كقوله تعالى (لا إكراه في الدين) و قوله تعالى (و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر) و قوله تعالى (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) و قوله تعالى (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) و غيرها من الآيات الكثيرة .... و عند التأمل في تلك الآيات و غيرها فإننا نخرج بقواعد تنظم علاقة الانسان بالاخر وتجعل الاحترام هو السمة المتبادلة بين الشتات المترامي من الافكار و الاديان ، و هذا لا شك هو ما كان يدعوا إليه النبي صلى الله عليه و سلم و كان يطبقه أيضا ، و المتتبع لسيرته صلى الله عليه و سلم و المستقرىء لها يرى أن في مجتمع المدينة المنورة كان التعايش مع الاديان الاخرى في غاية الاحترام و التقدير و لنا في جار الرسول اليهودي خير دليل و مثال ... كذلك علاقته صلى الله عليه و سلم بمخالفيه أو معارضيه و على رأسهم عبدالله بن سلول ، حيث كانوا يحرضون على اخراج النبي صلى الله عليه و سلم من المدينه كما جاء في كتاب الله على لسان المنافقين (يقولون لئن رجعنا لنخرجن الأعز منها الأذل) و لم تكن ردة فعل النبي صلى الله عليه و سلم بالحجر عليهم أو طردهم أو محاكمتهم أو قتلهم أو غير ذلك من التصرفات الوحشية و القمعية التي يقوم بها جباروا الازمنة و الامكنة ، إنما رده كان (و إن يقولوا تسمع لقولهم) فوضع أساس للتعامل مع المخالف و المعارض في ظل دولة الاسلام ، و حتى تكون منهاجا للحياة و نبراسا لأمته حتى يرث الله الأرض و من عليها ، و هناك حوادث كثيرة حصلت في زمن النبي صلى الله عليه و سلم تؤكد احترام ديننا الاسلامي للآخر و تضمن و تكفل حرية فكره و اعتقاده .

إن كفالة الدين الاسلامي لحرية الفكر و الاعتقاد تقودنا إلى مجتمع تتعدد به الافكار و العقائد و المذاهب ، مجتمع يعيش به أناس يحملون أفكارا متضادة ، أناس يحملون عقائد و و مذاهب مختلفة لكنهم أسرة واحدة في الانسانية ، و هذا التنوع هو ما يتماشى مع الفطرة السليمة للبشرية جمعاء ، فالمجتمع آحادي الفكر أو العقيدة أو المذهب دائما مايكون مجتمع سلبي أو مجتمع غير سوي و غير سليم و بالضرورة غير منتج ، ففي صدر الاسلام و عندما كانت الأمة الاسلامية في أوج حضارتها و تقدمها كانت متنوعة الافكار و المذاهب و العقائد ، كوجود المذاهب الفقهية الأربعة و غيرها و وجود المذاهب الفكرية مثل أهل الحديث و أهل الرأي ، حيث وجود تلك المدارس هو نتيجة طبيعية للحرية الموجودة في ذاك الزمان ، و عند الرجوع إلى الآية الكريمة ( و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ..... ) نجد أن الله سبحانه و تعالى أمر بوجود أمة و ليس فرد ، و أن الخطاب كان بالجمع و ليس بالمفرد و هو ما يحتم وجود أكثر من تجمع أو حزب إن صح التعبير يقوم بالعملية الاصلاحية ، و حسب استنتاجنا هذا فإن وجود أكثر من حزب يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكرإذا لا بد أن يكون هنالك أكثر من فكر يسود المجتمع الواحد .... ما أرنو الوصول له أن التعدد في الآراء هو السمة الصحيحة في المجتمع ، و هذا ما كان يدعوا له قرآننا الكريم .

تبقى نقطة أخيرة و كثيرا ما تؤرقني ألا وهي المنع أو القمع أو الحجر ... إلخ ، و هي الوسائل التي تتخذها السلطة في سبيل عدم وصول الافكار إلى المجتمع ، و هي للأسف الشديد ليست وليدة عصرنا هذا .. انما موجودة منذ القروون الاسلامية الاولى و حتى يومنا هذا ، و لا يوجد أي أصل لها في الدين و الشريعة الاسلامية ، ولكن هي مصالح السلطة غلفت بعباءة دينية و الهدف منها الحفاظ على المنصب !! كما كان يحدث في محنة الامام أحمد مع الخليفة المأمون ، حيث أمره بالقول بخلق القرآن ، و خلق القرآن هي فكرة خرجت في عصر الخليفة المأمون على يدي المعتزلة ، و حتى يحافظ الخليفة على عرشه كان لابد أن يرغم كل المجتمع على هذه الفكرة !!!
لو كان للمنع أصل في الدين لمنع الرسول صلى الله عليه و سلم دخول ابن سلول إلى المدينة ، فهو عبارة عن شخص يحمل أفكارا تريد هدم الدعوة الاسلامية ، و تريد الاطاحة بحكم النبي الكريم .. لكن ديننا الاسلامي الحنيف و الحكمة النبوية ترى أن الحق لا يمكن أن يضيع ، مهما كثرت الافكار و كثر مؤيدوها فإن الحق لا بد أن يظهر و يبان .. يقول تعالى ( و قل جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) ، لذلك الأصل في التعامل مع الأفكار في مجتمع ما تكون على أساس ثقافة الحجة و ليس ثقافة المنع ، لذلك النبي صلى الله عليه و سلم لم يمنع ابن سلول و لم يأمر بتوحيد رأي معين ، و لكن جعل الحق يظهر باقامة الحجج .... أو كما يقال الحق أبلج و الباطل لجلج .
لا الدين و لا المنطق السليم و لا العلم الحديث يأمر بالمنع و القمع و الحجر سوى تاريخنا المفترى عليه هو من قال بالمنع ، و لنعلم جيدا أن المنع لا يولد إلا الانفجار .. و الحرية لا تولد إلا الابداع :)

هناك تعليق واحد:

  1. موضوع مهم .. وطرح مميز للفكرة..

    أنا متفقة معك في كل ما دونته مع وجود اضافة بسيطة..

    المشكلة تكمن ليس في هذا فقط .. بل عندما يلونون السلوك الغير أخلاقي والغير سوي بلفظ الحربة حتى يألفها الناس..


    ما شاء الله مدونة مميزة..
    سأضيفها لقائمتي بالتأكيد..

    شكرا..

    ردحذف