السبت، 30 يناير 2010

عوالم النهضة 1- عالم الأفكار

ذكرت في مقدمة عوالم النهضة أنني سوف أتطرق إلى وسائل أو مراحل نهضة الأمم ، و كانت أول هذه المرحلة هي ( عالم الأفكار ) .. و أريد أن أذكر لكم مثال حتى يتسنى لنا فهم المقصود من عالم الأفكار ، و هذا المثال اقتبسته من كتاب ( من الصحوة إلى اليقضة ) للدكتور جاسم سلطان :
" حاول أن تتخيل معنا قوما من الأمازون أو من الأدغال الأفريقية بعالمهم الفكري المتواضع و بدائيتهم و قد تم نقلهم إلى ألمانيا ، بينما نقل الشعب الألماني إلى أفريقيا أو إلى الأمازون ، ماذا كان سيحدث حينها ؟
الأمر سيبدوا واضحا و جليا ، و هو أن الألمان في هذه الحالة سيعمرون المناطق الأمازونية أو الأفريقية و يصلحونها ، بينما ستدمر ألمانيا ببنائها و حضارتها و شوارعها على يد القبائل البدائية "

إذا لابد على أي أمة تريد النهضة و التطور و التقدم أولا أن تصلح الحالة الفكرية لديها "إن وجدت" ، أو أن تقوم بخلق منظومة فكرية تسير عليها و تهتدي بها ، و حتى تتضح الصورة أكثر .. يجب على أي أمة تريد النهوض أن يكون لديها فكرة تعمل من أجلها .. أو فكرة تطور من نظام العلاقات بين البشر .. أو فكرة تقوم على العدالة و المساواة بين الناس .. أو أفكار و أفكار كثيرة من شأنها أن تحرك الهواجس و المشاعر لدى البشر ، و متى ما تحركت هذه الهواجس و المشاعر فإن عجلة العمران البشري و التنمية البشرية سوف تتحرك .

إن تحريك الناس و حثهم على العمل و تحويلهم من أناس مستهلكين إلى أناس منتجين ليس بالأمر السهل ، و قد يكون الأمر سهلا و يسيرا إذا تم من خلال القوة و البطش ، و هذا في الغالب لا يدوم و لا يجدي ، و قد يظن البعض أن دفع الناس و تحريكهم لا يتم إلا من خلال الكذب و الخزعبلات و النواميس الغريبة ، وهذه الوسيلة لا تصلح إلا للجهلة الذين لا يفقهون من أمور الحياة شيئا و أيضا لا تدوم و لا تجدي .. و لكن من يقوم بمهمة تحريك و تحفيز و دفع الناس للعمل هو ( الفكرة ) .
انظر إلى جميع الأفكار الموجودة في عالمنا .. الحرية ، العدالة ، الليبرالية .. العلمانية .. المساواة .. التوحيد ... إلخ ستجد أن سبب نشأتها هو محاولة شعب ما في زمن ما للنهوض بأمته ، و محاولة انتشالها من الفوضى و التخلف و الضياع ، أنا لا أقول أن كل الأفكار استطاعت أن تنقل الشعب من حالة التخلف إلى التقدم ، و لا أقول أن كل هذه الأفكار صحيحة ، و لكن كل هذه الأفكار تستطيع أن تحرك شعب بأكمله ، لأن الفكرة لها سحر يسري في جسد الأنسان و يشعل الغيرة فيه و من ثم يتحرك نصرة للفكرة :)

عندما جاء النبي صلى الله عليه و سلم لأمته و استطاع بسنوات معدودة أن يكون دولة قائمة في الصحراء ، و من ثم سار الصحابة الكرام على أفكاره و نهضوا بتلك الأمة المتخلفة ، و جعلوها أمة تصارع و تقارع أقوى دولتين على الأرض ، لم يكن السبب هو تحريك النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه بسطوة أو بمال أو بخزعبلات ، إنما قادهم بفكرة أو مجموعة أفكار و استطاع شحذ هذه النفوس نحو الغاية الكبرى ، جاء بفكرة التوحيد في حين كان العرب يعبدون الوثن ، جاء بفكرة الحرية في حين كان الناس يستعبدون بعضهم البعض ، جاء بفكرة المساواة في زمن كان الناس عبارة عن طبقات .. كل يعامل حسب طبقته ، إذا الأفكار التي جاء بها نبينا الكريم حركت المشاعر و الهواجس لدى البشر ، حملتهم على المضي قدما مع النبي صلى الله عليه و سلم لبناء حضارة عظيمة يشهد لها التاريخ ، هذا بالنسبة للحضارة الاسلامية .

يقول ويل ديورانت في كتابه ( أبطال من التاريخ ) و هو مختصر لقصة الحضارة .. يصف حال أوربا في العصور الوسطى :
"هكذا فإن النهضة في طفولتها الأولى كانت تصوت لمباهج الحياة الدنيا و تحدياتها ، و ليس للملذات المفترضة لفردوس يأتي بعد الموت "
و يقول في موقع آخر من نفس الكتاب :
" لم تكن تلك المخطوطات أساسا هي التي حررت عقل النهضة و حواسها ، إنما كانت النزعة العلمانية التي أتت من نهوض الطبقات المتوسطة "
إذا الفكرة التي جاء بها الأوربيون هي العلمانية ، أو فصل الدين عن الدولة .. حيث أن في ذلك الزمن كانت أوربا تعاني من سيطرة الكنيسة على شؤون الحياة كلها ، و عاشت أوربا في زمن التخلف و الضياع عندما سيطرت الكنيسة ، فما كان من المفكرين و المثقفين إلا الخروج بفكرة العلمانية التي خلصتهم لاحقا من الكنيسة ، و فتحت لهم أبواب النهضة و التقدم ، أنا لا أقول أن العلمانية هي الحل :)
ولكن الأحوال في أوربا في تلك الأيام تستدعي ظهور فكرة العلمانية ، فالدين و تحكمه في شؤون حياتهم كان عائقا للتقدم ، و الكنيسة و تدخلها في السياسة جعل من التطور أمرا مستحيلا ، و بالفعل طرحت فكرة فصل الدين عن الدولة و حصلت هذه الفكرة على تأييد كبير من الشعوب ، حتى و إن كان تطبيق هذه الفكرة جاء بعد فترة زمنية ليست بقصيرة ، انما الفكرة هي التي حركت الشعب نحو النهضة .

إذا عالم الأفكار هو ما يجب على أمتنا الاسلامية تصحيحه ، كل مسلم يعلم و يعتقد بصحة دينه وأنا لا أشكك في ذلك .. لكن لا أتوقع أن كل مسلم مقتنع بالأفكار التي نحملها في أيامنا هذه ، و إن اقتنع بها فهي لا توصلنا إلى مقدمة الأمم ، لأن ظرف الزمان و المكان اختلف عما كان قبل 20 سنة من الآن ، فما بالنا ب 1400 سنة !!!

هناك تعليقان (2):

  1. الله يعطيك العافية على المقالة الجميلة.
    ومنتظرين باقي العوالم :)
    إلى الأمام يا مفكر :)

    ردحذف
  2. ما اعجبت به هو آخر فكرة او فقرة
    وذلك بسبب انك وضعت يدك على الجرح
    وفعلا ما نواجهه في عالمنا الإسلامي من الأفكار المخزية والرجعية هو سبب تراجعنا وفرقنا
    الإنشقاق الإسلامي لن يوصلنا لشيء
    لماذا نحن العرب لا نهتم بالأفكار
    وانما نهتم بالأفعال
    ذهبت الى امريكا وتركيا وماليزيا
    كل هذه الدول تحاول النهوض او نهضت
    لأنها سعت لفكرة وتركت الأفعال على حدى
    هذا ما نحتاجه

    مقالة رائعة
    شكرا
    :)

    ردحذف